في عالم يتسارع فيه التقدم والنمو والتطور، لم يعد النجاح المجتمعي يُقاس فقط بمدى الإنجازات الاقتصادية والتقنية، بل أصبح يُقاس أيضًا بمدى شمولية ومشاركة هذا التقدم لجميع فئات المجتمع دون استثناء، بما فيهم الأشخاص ذوي الإعاقة حيث لم يعد مقبولًا اليوم أن يُنظر إلى الإعاقة باعتبارها عائقًا أمام المشاركة المجتمعية الفاعلة، بل أصبح من الضروري أن نعمل جميعًا على تمكين هذه الفئة الغالية وبناء قدراتها اجتماعيًا وتعليميًا واقتصاديًا فيما يُعرف بـ"التمكين الاجتماعي" والذي يعني إكساب الأشخاص ذوي الإعاقة مختلف المعارف والاتجاهات والقيم والمهارات التي تؤهلهم للمشاركة الإيجابية والفعالة في أنشطة وفعاليات الحياة الإنسانية إلى أقصى حد ممكن وفق إمكانياتهم وقدراتهم، كما يشمل التمكين تغيير ثقافة المجتمع تجاه الإعاقة من ثقافة التهميش إلى ثقافة التمكين، وبتجسيد هذا المفهوم على أرض الواقع يشعر الأشخاص ذوي الإعاقة بالراحة والطمأنينة والانتماء داخل مجتمعهم، ويزداد لديهم الدافع للتطوير والإبداع والمشاركة في مختلف الأنشطة، كما ينعكس ذلك إيجابًا على المجتمع ككل من خلال الاستفادة من طاقاتهم وقدراتهم الكامنة، وتعزيز قوة المجتمع وازدهاره باستثمار جميع طاقات أبنائه دون استثناء.
كيف نحقق سبل التمكين الاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة؟
يُعد التمكين الاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة أحد الركائز الأساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، ويتطلب تدخلًا متعدد الأبعاد يشمل ما يلي:
-
التمكين التعليمي والتدريبي
يُشكل حجر الأساس في بناء قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة، إذ يتطلب توفير فرص تعليمية وتدريب مهني متنوعة تتناسب مع قدراتهم واحتياجاتهم، مما يمكّنهم من اكتساب المهارات اللازمة للحصول على فرص عمل مناسبة في سوق العمل، ويعزز استقلاليتهم وثقتهم بأنفسهم، كما يُسهم هذا النوع من التمكين في تطوير قدراتهم الفكرية والاجتماعية، ويمنحهم الأدوات التي تساعدهم على التفاعل الإيجابي مع بيئاتهم، ويُعد خطوة محورية نحو تحقيق الدمج الكامل في المجتمع، من خلال التعليم الشامل والتدريب الموجه الذي يراعي الفروق الفردية ويستثمر الطاقات الكامنة.
-
التمكين الاقتصادي والتوظيف
يُعد التمكين الاقتصادي والتوظيف ركيزة أساسية لتحقيق الاستقلالية والاندماج الاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة، إذ يسهم في تعزيز قدرتهم على الاعتماد على الذات، ويمنحهم الفرصة للمشاركة الفاعلة في الحياة الاقتصادية، ويُعد توفير فرص عمل مناسبة، وتهيئة بيئات عمل دامجة، وتقديم التدريب المهني الملائم من العوامل التي تفتح أمامهم آفاقًا جديدة للإنتاج والإبداع، وتُسهم في تحسين جودة حياتهم.
-
التمكين النفسي الاجتماعي
يمثل التمكين النفسي والاجتماعي أحد أهم دعائم الدمج الاجتماعي الفعّال للأشخاص ذوي الإعاقة، إذ لا يقتصر التمكين على توفير الخدمات التعليمية أو المادية أو فرص العمل، بل يشمل أيضًا بناء الثقة بالنفس، وتعزيز الشعور بالانتماء، وتوفير بيئة داعمة نفسيًا واجتماعيًا، ويتحقق ذلك من خلال تقديم برامج إرشادية وعلاجية متخصصة، وتوفير الدعم الأسري والمجتمعي، وتدريب الكوادر العاملة في المجال الاجتماعي والنفسي على التعامل المهني والإنساني مع الأشخاص ذوي الإعاقة، فبناء الفرد وتعزيز صحته النفسية والاجتماعية، وتنمية قدراته على التفاعل الإيجابي مع محيطه، هو صمّام الأمان لأيّ مجتمع، إذ يُسهم في تحقيق الاستقرار الداخلي، ويُعزز من دوره الفاعل في التنمية المجتمعية.
-
خدمات الدعم الشاملة
وتشمل هذه الخدمات توفير الإسكان التنموي من خلال وحدات سكنية متكاملة وميسرة تضمن الاستقرار الأسري والاجتماعي، بالإضافة إلى الحماية من الإيذاء بمختلف أنواعه، كما يُعد تصميم المرافق العامة لتكون خالية من العوائق، وتسهيل الوصول إلى الخدمات الرقمية من العوامل الأساسية لتعزيز استقلاليتهم واندماجهم في المجتمع.
-
تغيير النظرة المجتمعية وتعزيز الشمول
لا يكتمل التمكين دون تغيير ثقافة المجتمع تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، من خلال رفع الوعي بأهمية دمجهم وتمكينهم والحد من المفاهيم السلبية، حيث إن المجتمع الذي يهتم بالأشخاص ذوي الإعاقة هو مجتمع مسؤول يستشعر المسؤوليَّة نحو كافَّة أبنائه، ممَّا يجعله يشق طريقه نحو التقدم والريادة، اضافة الى المشاركة الفعالة للأشخاص ذوي الإعاقة في الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، ودعم رياضات ذوي الإعاقة وتسليط الضوء على إنجازاتهم، مما يعزز من اندماجهم ويبرز قدراتهم أمام المجتمع.
"ان تكامل هذه الأبعاد يضمن تحقيق التمكين الاجتماعي الشامل للأشخاص ذوي الإعاقة، ويُسهم في تعزيز استقلاليتهم، واندماجهم الفعّال في المجتمع، ويُعد مؤشرًا على مدى التزام المجتمعات بقيم العدالة، والمساواة، والتنمية المستدامة.
التمكين الاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة في المملكة العربية السعودية: قراءة في أبرز الجهود والمبادرات
اعتنت حكومة المملكة العربية السعودية برعاية الأشخاص ذوي الإعاقة من خلال منظومة متكاملة من السياسات والبرامج التي تضمن حصولهم على حقوقهم المرتبطة بالإعاقة، وتُعزز من جودة الخدمات المقدمة لهم، وقد شملت هذه الجهود توفير سبل الوقاية والرعاية والتأهيل إلى جانب تبني استراتيجيات وطنية تهدف إلى تمكينهم من تحقيق أعلى درجات الفاعلية الوظيفية، بما يضمن توافقهم مع متطلبات بيئتهم الطبيعية والاجتماعية، كما تسعى المملكة إلى تنمية قدراتهم وتعزيز استقلاليتهم، ليكونوا أعضاء منتجين وفاعلين في المجتمع مساهمين في التنمية الوطنية من خلال التمكين الشامل الذي يجمع بين الرعاية والدعم والتحفيز.
- برامج الاعانة المالية: وهي احدى الخدمات التي تقدمها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية حيث تمكّن الأشخاص ذوي الإعاقة المسجلين لدى الوزارة الذين تم تقييم إعاقتهم من تقديم طلب للحصول على الإعانة المالية الشهرية بحسب الشروط والضوابط المعتمدة لذلك، بالإضافة الى توفير بطاقات تخفيض أجور الإركاب على وسائل النقل العام وبطاقات التسهيلات المرورية، ومنحها للأشخاص ذوي الإعاقة، وتقديم برنامج الإعفاء من دفع رسوم التأشيرات للأشخاص ذوي الإعاقة.
- برامج التدريب التوظيفي: برنامج مواءمة والذي سبق ذكره حيث يعد مواءمة أحد البرامج التابعة لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والذي تم إطلاقه تطبيقًا لاستراتيجية المملكة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، ويهدف إلى تمكين ذوي الإعاقة من الحصول على فرص عمل مناسبة، ومدّهم بكافة التسهيلات والأدوات التي تساعدهم على تحقيق النجاح، إضافة إلى تحفيز المنشآت في القطاع الخاص على توفير بيئة عمل ملائمة للأشخاص ذوي الإعاقة، وفق معايير واشتراطات محددة، تمكن المنشأة من الحصول على الترخيص اللازم لتوظيفهم.
- برنامج الوصول الشامل لمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة: حيث تبنى مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة ضمن برنامج الوصول الشامل إعداد الأدلة والتنظيمات اللازمة لتهيئة البيئة العمرانية وتهيئة وسائل النقل والأماكن العامة لتيسير حركة ذوي الإعاقة حيث تساهم هذه الأدلة في توفير الدعم الكامل لذوي الإعاقة وحماية حقوقهم في مختلف المجالات منها: (الدليل الإرشادي للوصول الشامل في وسائط النقل البرية- ا لدليل الإرشادي للوصول الشامل في وسائط النقل البحرية- الدليل الإرشادي للوصول الشامل في البيئة العمرانية- الدليل الإرشادي للوصول الشامل للوجهات السياحية وقطاعات الإيواء- دليل سفر خاص للأشخاص ذوي الإعاقة- الدليـل المبـسـط لمعايير الوصول الشامل للمنشـآت التعليمية والصحية والحكومية )
- بطاقة ذوي الإعاقة الرقمية: حيث تعمل الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) إلى تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من خلال تيسير وتسهيل استعراض البطاقة الرقمية (تسهيلات) لهم، ولذوي اضطراب التوحد، والصادرة من وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية من خلال المحفظة الرقمية في توكلنا خدمات.
- وزارة التعليم : أطلقت عددًا من المبادرات الداعمة لدمج الطلاب ذوي الإعاقة في البيئة التعليمية، من خلال توفير برامج تعليمية متخصصة، وتدريب الكوادر التعليمية على أساليب التعليم الشامل، وتوفير أدوات وتقنيات مساعدة داخل الفصول الدراسية، بما يضمن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص في التعليم، ومن أبرز هذه المبادرات دعم التدخل المبكر من خلال افتتاح 70 روضة مخصصة لدمج الأطفال ذوي الإعاقة، إلى جانب المدارس والمعاهد الخاصة التي تقدم خدمات تعليمية وتأهيلية ومهنية بكوادر متعددة التخصصات، وتنفذ الوزارة نماذج متعددة للدمج، تشمل الدمج الكلي في فصول التعليم العام، والدمج المكاني في فصول ملحقة، مع تكييف المناهج وفق الخطط التربوية الفردية، بالإضافة إلى تقديم القسائم التعليمية للمدارس الأهلية، والتي استفاد منها أكثر من 4000 طالب وطالبة من ذوي الإعاقة.
- في المجال الرياضي: أطلقت وزارة الرياضة برامج ومبادرات تهدف إلى تعزيز مشاركة الأشخاص ذوي الإعاقة في الأنشطة الرياضية، من خلال دعم الأندية المتخصصة، وتنظيم البطولات المحلية والدولية، وتوفير التجهيزات اللازمة لممارسة الرياضات المختلفة، ومن أبرز هذه المبادرات برنامج "فخر" الذي يُعد أحد البرامج الوطنية الرائدة، حيث يهدف إلى تأهيل وتدريب الأشخاص ذوي الإعاقة في عدد من الرياضات النوعية، وتوفير الأطراف الصناعية والكراسي الرياضية، كما أطلقت مبادرة دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في العمل التطوعي الرياضي، والتي مكّنتهم من المشاركة الفاعلة في تنظيم الفعاليات الكبرى مثل سباقات الفورمولا، مما يعزز من اندماجهم المجتمعي ويبرز قدراتهم التنظيمية والقيادية في القطاع الرياضي.
- مراكز الرعاية اليومية غير الحكومية: أنشأتها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية كبديل للرعاية المؤسسية، وتهدف إلى تقديم خدمات اجتماعية وترويحية وتدريبية لحالات شديدي الإعاقة، بالإضافة إلى برامج التثقيف والإرشاد الأسري التي تسهم في دعم الأسر وتمكينها من التعامل الفعّال مع احتياجات أبنائها، وقد توسعت الوزارة في إنشاء هذه المراكز لتغطي مختلف مناطق المملكة، حيث بلغ عددها 494 مركزًا، مما يعكس التزامًا وطنيًا بتوفير خدمات متخصصة وشاملة تضمن جودة الحياة للأشخاص ذوي الإعاقة وأسرهم
- مبادرة الإسكان التنموي: والتي تم تنفيذها من قبل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بالتعاون مع وزارة الشؤون البلدية والإسكان، حيث تم تسليم 58 وحدات سكنية مهيأة للأشخاص ذوي الإعاقة المستهدفين بالدمج المجتمعي، لتوفير بيئة معيشية متكاملة وآمنة تراعي احتياجاتهم وتُسهم في تعزيز استقرارهم الأسري والاجتماعي.
دعم المشاريع الفردية: هو أحد برامج التمكين الاقتصادي التي تقدمها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، وتحديدًا عبر وكالة التأهيل والتوجيه الاجتماعي، ويستهدف الأشخاص ذوي الإعاقة القادرين على العمل والراغبين في تأسيس مشاريعهم الخاصة، حيث تقوم الوزارة بتقديم منحة مالية غير مستردة لتأسيس المشروع، وقد استفاد منها أكثر من 34 مستفيدًا حتى الآن، ويُشترط أن يقدم المستفيد دراسة جدوى معتمدة، وأن يخضع لبرامج تدريبية وإرشادية بالتعاون مع معهد ريادة الأعمال الوطني، الذي يتولى دعمهم في تطوير فكرة المشروع، وتدريبهم على مهارات الإدارة والتسويق، لضمان نجاح المشروع واستدامته.
-الشراكات الاستراتيجية للتمكين الاقتصادي: تُعد من أبرز المبادرات التي أطلقتها هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة، حيث عقدت شراكة نوعية مع بنك التنمية الاجتماعية تهدف إلى دعم الأشخاص ذوي الإعاقة في تأسيس مشاريعهم الخاصة من خلال تقديم منتجات تمويلية ميسّرة، واستثناءات خاصة تراعي احتياجاتهم، وتأتي هذه المبادرة في إطار تعزيز استقلاليتهم الاقتصادية، وتحفيز مشاركتهم الإنتاجية، وتمكينهم من دخول سوق العمل كمبادرين ورواد أعمال.
- التنسيق مع منصة "جدارات" الوطنية للتوظيف: لتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من التقديم على فرص العمل المناسبة بسهولة، من خلال واجهات استخدام مهيأة تراعي احتياجاتهم، كما تم دعمهم ببرامج تدريبية متخصصة في الحرف والأعمال اليدوية تهدف إلى تطوير مهاراتهم المهنية، ورفع جاهزيتهم لسوق العمل، بما يعزز استقلاليتهم الاقتصادية ويُسهم في دمجهم الفعّال في بيئات العمل المختلفة.
- برنامج "تمكين ثون" : أطلقته هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة لتمكينهم من ابتكار حلول جديدة تعزز الشمولية، إلى جانب برنامج "قمم" للتمكين القيادي الذي يؤهلهم بالمهارات القيادية والفنية.
إن بناء مجتمع شامل لا يتحقق إلا حينما يُمنح كل فرد الفرصة الكاملة للمشاركة والاندماج، بغض النظر عن قدراته الجسدية أو العقلية ، ومن هذا المنطلق فإن دعم الأشخاص ذوي الإعاقة وتمكينهم اجتماعياً هو مسؤولية مشتركة تتطلب وعيًا مجتمعيًا متزايدًا، وتعاونًا فعّالًا بين الجهات الحكومية والمجتمع المدني وأفردا المجتمع، فكل خطوة نحو إزالة الحواجز النفسية والاجتماعية تُسهم في ترسيخ قيم الاحترام والتنوع، وتُعزز من روح التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع، بما يسهم في بناء مجتمع واعٍ ومسؤول يُقدّر قيمة كل فرد، ويُرسّخ مبادئ التعايش والقبول، ويُمهّد الطريق نحو مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا للجميع.
رنا بنت سعدالله السلمي