صورة بعنوان المقال

بعد أن تناولتُ في المقال السابق سُبل التمكين الاجتماعي للأشخاص ذوي الإعاقة، وتحدثت عن التمكين النفسي الاجتماعي كأحد أبرز هذه السبل،

اليوم أجدها فرصة مناسبة لأتعمق في أحد أهم أدوات التمكين وأكثرها تأثيرًا "ممارسة الرياضة لذوي الإعاقة" فقد تجاوزت الرياضة حدود الجسد في مختلف أنحاء العالم، وأصبحت ميدان يتحدى فيها الأفراد من ذوي الإعاقة الصور النمطية، ويعيدون تعريف القوة والتميّز، فحين نتأمل في قصصهم لا نرى مجرد إنجازات رياضية، بل نلمس إرادة تتحدى المستحيل وتصنع من الإعاقة دافعًا للإبداع.

-       فها هي أوكسانا ماسترز، المتزلجة الأمريكية من أصل أوكراني، التي وُلدت بتشوهات خلقية نتيجة كارثة تشيرنوبيل، لكنها لم تسمح لتلك البداية أن تحدد مسارها، فعبر التزلج الريفي والتجديف وركوب الدراجات، شاركت في عدة ألعاب بارالمبية وتُوجت بجائزة لوريوس العالمية كأفضل رياضية من ذوي الاحتياجات الخاصة، قصتها ليست فقط عن الرياضة، بل عن التحول من الألم إلى البطولة، ومن الإعاقة إلى التعدد في الإنجاز.

-   وفي قلب تونس تتألق روعة التليلي، التي جعلت من رمي القرص ودفع الجلة منصة لتأكيد أن الإبداع العربي لا يعرف حدودًا، بأكثر من ست ميداليات ذهبية أولمبية وخمس عالمية، وأرقام قياسية لا تزال تُحطم، أصبحت رمزًا للرياضية التي لا تُقهر، والتي تكتب تاريخًا جديدًا للمرأة العربية في الرياضة البارالمبية.

-       أما في المملكة العربية السعودية فيخوض فيصل القصيبي مغامرة فريدة إذ يستعد لعبور بحر المانش، متحديًا المسافة بين إنجلترا وفرنسا ومؤكدًا أن ذوي الهمم ليسوا فقط جزءًا من المشهد الرياضي بل روّاد فيه، فبعد أن أهدى المملكة ميداليتين في أولمبياد لوس أنجلوس يشارك اليوم في سباق عالمي يجمعه مع الرياضيين الأصحاء في رسالة قوية عن الدمج والمساواة.

هذه النماذج ليست مجرد إنجازات فردية، بل هي تجسيد حي لقدرة الرياضة على تجاوز المفاهيم التقليدية، وتحويل الإعاقة من عائق إلى منطلق، ومن التحدي إلى الإنجاز "إنها تُظهر كيف يمكن للرياضة أن تكون أداة للتغيير الاجتماعي، ومنصة للدمج والمساواة، ونافذة يُطل منها العالم على طاقات كامنة تستحق أن تُحتفى وتُحتضن"

الرياضة أكثر من مجرد نشاط بدني

-   الرياضة كوسيلة تأهيلية

لا تقتصر ممارسة الرياضة بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة على كونها نشاطًا بدنيًا، بل تُعد من أهم الوسائل التربوية والتأهيلية التي تُسهم في تعزيز قدراتهم الوظيفية، وتُهيئهم لمواجهة متطلبات الحياة اليومية باستقلالية وكفاءة، فالرياضة تُساعدهم على بناء الكفاءة البدنية، وتقوية أجهزة الجسم، وتحسين القدرة على تحمل الجهد ومقاومة التعب، مما يُعزز من جودة حياتهم الصحية والنفسية.

-       الرياضة كأداة لتنمية القدرات العقلية والمعرفية

لا تقتصر فوائد الرياضة على الجانب البدني، بل تمتد لتشمل الجانب العقلي والمعرفي، فرياضة الأشخاص ذوي الإعاقة تُسهم في زيادة الإدراك العام، وتنمية القدرات الذهنية، وتعزيز التركيز والانضباط وهي أيضًا عملية تربوية تأهيلية يستمد منها الشخص المعاق أسلوبًا نموذجيًا لحياته، يجعله طاقة إبداعية تسهم في بناء المجتمع.

-   الرياضة كجسر للاندماج المجتمعي

من خلال المشاركة في الأنشطة الرياضية، يجد الأشخاص ذوو الإعاقة أنفسهم جزءًا من فرق، ومجموعات، ومنافسات، مما يُسهم في بناء علاقات اجتماعية صحية، ويُزيل الحواجز النفسية التي قد تعيق اندماجهم في المجتمع، كما أنها تُعزز من الشعور بالانتماء، وتُساعد على كسر العزلة، وتُوفر مساحة آمنة للتعبير عن الذات، مما يجعل الشخص المعاق أكثر قدرة على التفاعل والمشاركة في الحياة العامة، ويُسهم في دمجه كعضو فاعل في المجتمع.

-   الرياضة كمنصة لكسر الصور النمطية

لطالما ارتبطت الإعاقة في أذهان البعض بالعجز أو الضعف، لكن الإنجازات الرياضية التي يحققها الأشخاص ذوو الإعاقة تُعيد تشكيل هذه الصورة الذهنية بشكل جذري، فحين نرى بطلة مثل أوكسانا ماسترز تتفوق في عدة رياضات رغم إعاقتها الخلقية، أو روعة التليلي تحطم الأرقام القياسية في ألعاب القوى، أو فيصل القصيبي يستعد لعبور بحر المانش، ندرك أن الإعاقة لا تعني نهاية الطموح، بل قد تكون بداية لمسيرة استثنائية، فالرياضة تُظهر قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة، وتُسلط الضوء على إمكانياتهم، وتُسهم في تغيير نظرة المجتمع إليهم من الشفقة إلى الإعجاب والاحترام.

-   الرياضة كوسيلة لاكتشاف المواهب وتطويرها

الرياضة لا تُسهم فقط في تحسين القدرات البدنية والنفسية، بل تُعد أيضًا وسيلة لاكتشاف المواهب الكامنة لدى الأشخاص ذوي الإعاقة، من خلال التدريب والمنافسة، تظهر قدرات غير متوقعة في مجالات متعددة، مثل السرعة، القوة، التركيز، أو حتى القيادة الجماعية، هذه المواهب، إذا تم احتضانها وتطويرها، يمكن أن تتحول إلى إنجازات وطنية وعالمية، وتُسهم في بناء صورة إيجابية عن ذوي الإعاقة كمبدعين ومتميزين.

-   الرياضة كداعم للصحة النفسية

تلعب الرياضة دورًا محوريًا في دعم الصحة النفسية للأشخاص ذوي الإعاقة، فهي لا تُسهم فقط في تحسين اللياقة البدنية، بل تُحدث تأثيرًا مباشرًا على كيمياء الدماغ، فالنشاط البدني المنتظم يُحفّز الجسم على إفراز مجموعة من الهرمونات مثل الإندورفين، المعروف بقدرته على تخفيف الألم وتحسين المزاج، إلى جانب الدوبامين والسيروتونين، اللذين يُسهمان في تعزيز الشعور بالرضا، وتقليل التوتر، وتحسين جودة النوم، ومن خلال المشاركة في الأنشطة الرياضية، يشعر الفرد المعاق بالإنجاز، ويُعزز من احترامه لذاته، مما يُساعده على تجاوز مشاعر الإحباط أو الانعزال وتُسهم في بناء شخصية متوازنة ومستقرة نفسيًا، قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع.

-   الرياضة كطريق نحو الثقة وتحقيق الذات

تُعد الرياضة من أهم الوسائل التي تساعد الأشخاص ذوي الإعاقة على بناء الثقة بالنفس، فهي تمنحهم فرصة لتجربة النجاح، وتجاوز التحديات، وتحقيق الإنجازات الشخصية، من خلال التدريب والمنافسة، يكتشف الفرد قدراته الحقيقية، ويشعر بقيمته، ويُدرك أن الإعاقة لا تحد من طموحه، كما أن ممارسة الرياضة تُسهم في تعزيز الشعور بالاستقلالية، وتُساعد على تطوير مهارات القيادة واتخاذ القرار، مما يُمكّن الشخص المعاق من تحقيق ذاته، ورسم مسار حياته بإرادة قوية، فكل إنجاز رياضي مهما كان حجمه، يُمثل خطوة نحو إثبات الذات وكسر الحواجز النفسية، والانطلاق بثقة نحو المستقبل.

 

ختاما لا يمكننا النظر للرياضة بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة على أنها مجرد نشاط بدني، بل هي مساحة للتمكين وبوابة للاندماج، ومنصة لتحقيق الذات، فمن خلالها تُبنى الثقة، وتُكسر الصور النمطية، وتُعاد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع على أساس من الاحترام والتقدير، ولكي تؤدي الرياضة هذا الدور الحيوي، لا بد من دعمها وتوفير بيئات شاملة وآمنة تُراعي احتياجات ذوي الإعاقة، وتُحفزهم على المشاركة الفاعلة فكل خطوة يخطوها شخص من ذوي الإعاقة في ميدان الرياضة، هي خطوة نحو مجتمع أكثر عدالة، وإنسانية، وشمولًا.

 

رنا بنت سعدالله السلمي

معلومات الكاتب: Tawasal Association

اترك لنا تعليق